هل تظن أن الله الذي يبتليك بالخير و الشر لا يرى قلبك ؟ هل تظن أن الله ينساك ؟
إن الحجارة التي قُذف بها محمد صلى الله عليه و سلم في الطائف، وإن فقده لعمه أبي طالب الذي كان يقف في وجه كفار مكة يدافع عن ابن أخيه و فقده لرفيقة دربه و سنده و دثاره زوجته خديجة في نفس العام يملأ القلب حزنًا و همّا و ألما .. إن احتشاد المصائب في عام واحد يجعله عامًا ثقيلًا حزينًا في حياة محمد صلى الله عليه وسلم ، و لأن الحزن قد يعطّل حياة الإنسان و يكسر عزمه و صموده فقد كانت رحمة الله بقلب محمد صلى الله عليه و سلم متجليه في رحلة فريدة في تاريخ البشرية .. رحلة الإسراء و المعراج .
رحلة للتسرية عن قلب محمد صلى الله عليه و سلم بدأت من مكة ، و انطلقت إلى قلب بيت المقدس بإرادة الله تعالى لحكمة أرادها الله عز و جل ، حيث كبّر محمد صلى الله عليه و سلم إمامًا بالأنبياء ثم من الأرض المباركة عرج الله به إلى السماء . و لعلك تتساءل لماذا بيت المقدس ؟ لماذا اختار الله بيت المقدس ليصلى فيه محمد صلى الله عليه و سلم إماما بكل الأنبياء .
للإمام العسقلاني رأي لطيف أورده الدكتور عبدالله معروف في كتابه (المدخل إلى دراسة المسجد الأقصى المبارك) و أضاف عليه إضافة جميلة يقول الدكتور عبدالله معروف :
” المساجد الثلاث من وجهة نظري تمثل الجوانب الثلاثة الرئيسية في العلاقات المختلفة للإنسان المسلم ، حيث إنه يمكن تقسيم أنواع العلاقات المختلفة للمسلم في حياته إلى علاقته مع الله سبحانه و تعالى ، و علاقته مع النبي صلى الله عليه و سلم ، وعلاقته مع البشر عمومًا .
و هنا أرى أن مكة المكرمة تمثل الجانب الأول من هذه الأنواع الثلاثة من العلاقات، فهي تمثل علاقة المسلم مع ربه سبحانه و تعالى، و ربما يكون هذا سبب تسمية المسجد بالمسجد الحرام حيث إنه حرَمُ الله في الأرض، وفيه تتجلى عظمة الخالق سبحانه تعالى بما يجعل كل من يدخله يشعر بالرهبة و القشعريرة ، أما المدينة و مسجدها النبوي الشريف ، فإنهما يمثلان الجانب الثاني في حياة المرء المسلم ، و هو علاقته مع النبي صلى الله عليه و سلم و لعل هذا هو سر الطمأنينة و السكينة التي تغشى المدينة و زائريها.
و أما بيت المقدس و مسجدها الأقصى فإنهما يمثلان الجانب الثالث ، و هي العلاقة مع البشرية جمعاء و لعل هذا سر شعور أي شخص يزورها بثراء هذا المكان و عمقه النفسي و التاريخي البشري بل و ملكية الزائر لهذا المكان و انتمائه إليه ” (انتهى الاقتباس)
فإن كان محمد صلى الله عليه و سلم خاتم المرسلين قد صلى إمامًا بالأنبياء في بيت المقدس فهذا أذانٌ من الله للناس بأنه ورث مقدسات الرسل قبله و أن رسالته قد ارتبطت بهذه المقدسات جميعا و شملتها و من ضمنها الكعبة المشرفة التي بناها إبراهيم و إسماعيل و هم من المأمومين خلف محمد صلى الله عليه و سلم و كذلك كل أنبياء بني إسرائيل ، و قد كانت هذه الإمامة في المسجد الأقصى لأنه يمثل الجانب الإنساني في أنواع علاقات الإنسان المسلم .
لقد من الله على قلب محمد بهذه الرحلة لأن الله ( لا يكلف نفسًا إلا وسعها) مهما تكالبت المصائب و عظم البلاء فإن الله يبتلي المؤمنين ، هم فقط من يزلزلهم الله زلزال شديدا ليمحصهم و يعدهم لما هو أعظم .
يا أهلنا في غزة ، يا قلبنا الموجوع و دمنا النازف و دموعنا الجارية ، أتظنون أن الله لا يرى قلوبكم ؟ تعتقدون أن الله لا يعلم حجم مصابكم ؟ حاشاكم .. إنه يرى من خذلوكم كما خذل أهل الطائف محمد و رموه بالحجارة ، إنه يرى فقدكم أزواجكم و أهلكم ، إنه يرى فقدكم لجبال من المجاهدين الذين يصدون أذى الصهاينة عنكم كما كان يصدها أبي طالب عن محمد صلى الله عليه و سلم ، إن الله يرى و يسمع و يعلم و إن لله في قدره حكمه لا يعلمها إلا هو .
إن الأيام تثبت لنا أن الله اصطفاكم كما اصطفى قلب محمد ليحمل عبئًا ثقيلا ثم يحيطه الله باللطف و الرحمه ثم يكون أمرًا عظيمًا بعد ذلك ، لقد اصطفاكم الله أول ما اصطفاكم لتحملوا كتابه في صدوركم لتفهموا الحياة و حقيقتها و تعرفوا حجمها الحقيقي ، ثم اصطفاكم لتدخلوا على من تجبر و طغى الباب و والله مذ دخلتموه أنتم الغالبون .. النصر الذي كان حلمًا بعيد المنال جعلتمونا نراه أقرب و أقرب من أي وقت مضى ، لقد اصطفاكم الله في مواكب من الشهداء تزف إلى الجنة كل يوم إلى رضوان الله و رحمته إلى السعة و الحبور ..
مازلت أسمع صوتها و هي تقول ( والله يا خالتي ما أحلى الشهادة ) منكم من قضى نحبه و منكم من ينتظر و والله ثم و الله ما بدلتم تبديلا .. نحن شهود الله في الأرض و لقد رأينا كيف هز ثباتكم و صبركم أركان العالم أجمع و فتح في الأرض أبوابًا دخل منها الناس في دين الله أفواجا من شرق الكرة الأرضية إلى غربها و إن ما يقلقنا حقًّا هو حجم دورنا في هذا الجهاد المقدس، و ما الذي يمكننا أن نقدمه و نحن نحتقر كل ما نقدمه أمام تضحياتكم و صمودكم !
إن الله يرى قلوبكم يا أهلنا في غزة .. و إن الرحلة التي سيكتبها الله لكم ستنطلقون فيها كما يريدها الله عز و جل ، فهل يكتب الله لنا أن نكون معكم فيها؟ إن الدور المناط بكل مسلم موحد و هو يرى هذه الأحداث العظيمة في غزة دور كبير لكنه قد لا يكون واضحًا دائمًا ، وهذا ما يستدعي دورًا مختلفًا من المفكرين و العلماء و الوعاظ ، دورهم في توجيه الناس و تحريك الدفة نحو الهدف ، إن الجانب العاطفي اليوم عند أغلب المسلمين في كل بقاع العالم متهيج إلى أقصى حد من هول المصائب التي نراها كل يوم و التي مازالت مستمره في غزه ، فإن لم يعرف الناس حقيقة الدور الذي بإمكانهم القيام به فمن الممكن أن يصابوا بالخيبة و الوهن أو يفقدوا الأمل و هذا أمر خطير ، لذلك فإن كل دور مهما صغر هو دور مهم ، حشد ردود الأفعال في الإتجاه الصحيح هو دور المفكرين و العلماء و الوعاظ اليوم و كل ذي فكر و رأي سديد .
إن الله يصطفي من الناس من يثبتهم في درب نصرتكم و جهادكم ويسددهم من أجل دعمكم بكل عمل مهما صغر في كل مجال ( إغاثي / إعلامي / فكري / جهادي) و الله يصرف عنكم من إن خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا .. نحن فقط من يجب أن يقلق أين هو مكاننا في هذه القضية ، هل اصطفانا الله ووفقنا للجهاد و النصرة أم قعدنا مع القاعدين .
يا أهلنا في غزة و يا كل من يناصرهم و يدعم جهادهم .. يقول سيد قطب : ( إنما نحن أجراء عند الله أينما و حيثما و كيفما أرادنا أن نعمل عملنا ثم قبضنا الأجر المعلوم ، وليس لنا و لا علينا أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ، فذلك شأن صاحب الأمر الأمر لا شأن الأجير )
إن اليوم عمل و جهاد .. فانطلق مادام الباب مفتوح لك للمشاركة مهما صغر دورك فلعل الله يحرمك أو يستبعدك من أن تركب معهم في الرحلة إن أنت ركنت للدنيا ، اسأل الله أن يمنحك قلبًا يحمل هم المسلمين و نصرة العقيدة و الدفاع عن المقدسات و نصرة المظلومين ، اسأل الله أن يمنحك هذا القلب أولا لتكون مؤهلا للرحلة ثم (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعدو عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) جاهد نفسك و هواك لتكون مؤهلا للرحلة فالله يصطفي من عباده من يشاء ، و إنه لجهاد نصرٌ أو استشهاد .